(تابع الصفحة أعلاه)
يقول بيرنو:10 "نعرف جيداً أن كل المتعلمين ينحدرون منثقافة هي ثقافة أسرهم وأحيائهم، ومجموعات الانتماء وكذا الطبقات الاجتماعية، إنهم كل حسب انتمائهم، ورثة، غير أن السوقالمدرسي (le marché scolaire يجعل من بعض الإرث يزن ذهباً، في حين يشكل إرث آخر عملة رخيصة. إن الأطفال الذين نموا بين الكتب وفي خضم نقاشات ثقافية لا يحسون بالاغتراب عندما يلجون المدرسة، وهم ليسوا مغتربين، إلا من الأشكال الخاصة للفعل التربوي، وللعلاقات التربوية. أما أولئك الذين ترعرعوا في مساحات جرداء وأمام تلفزيون تفصلهم عنه مسافات، فإنه عليهم قطع مسافات طويلة ما دام لا شيء يتحدث إليهم لا الأشياء ولا الأشخاص ولا الأنشطة". يلتقي إذن بيرنو مع بورديو في اعتبار الثقافة المكتسبة في الوسط الأسري محدداً لتوافق الطفل مع محيطه المدرسي الجديد أو عدم توافقه، كما أن الثقافة المدرسية تحدد نوع المكانة الاجتماعية التي يشغلها الفرد، ما يفرز نوعاً من العلاقة المتبادلة بين المدرسة والولوج إلى عالم الشغل. وفي هذا الصدد، يقول ميشيل لوبرو:11 "إن المستوى الاجتماعي للآباء يحدد بدوره المستوى المدرسي والثقافي للأبناء، وهذا الأخير يحدد بدوره المستوى الاجتماعي لهؤلاء أنفسهم: إن الثعبان يعض ذيله"..
3-إن اختلاف الإرث الثقافي بين الفئات الاجتماعية لا يعني أن ما يوجد في الثقافة الشعبية هو عائق، بل إن المدرسة لا تقبله ولا تتعامل معه مفضلة إرث الطبقات الوسطى. وقد أوضح بيرتلو بـ"أن العائق الثقافي ليس سوى
الوجه الآخر لما يسميه بورديو بالإرث الثقافي، لكن كيف تؤثر ثقافة المدرسة النخبوية في إنتاج الفشل الدراسي؟".
يعرف علماء الاجتماع ثقافة النخبة باعتبارها "ثقافة الأشخاص الأكثر تعلماً، إنها ثقافة تنبع من أمهات الكتب
التي تؤسس في الأطفال التقليد الثقافي للطبقات الراقية، من قبيل زيارة المسارح، والتردد على المكتبات، وغيرها من الأنشطة". إن الثقافة بهذا المعنى فعالية إنسانية لا تنفصل عن شروط إنتاجها، ومن ثمة فإن النخبة ليست سوى ثقافة ضمن ثقافات أخرى، وهو ما يطرح إشكالاً معقداً بخصوص إمكانية وضع حدود فاصلة بين الثقافات. إن الأمر صار صعباً على خلاف الماضي، فقد كان بالإمكان وضع حدود فاصلة بين الثقافات، وبالتالي تحديد هذه الثقافة بكونها زراعية أو عمالية أو بدوية، أما الآن، فإن وسائل الإعلام أحرقت الأوراق وأنهت الحدودالفاصلة".
4. إذا كانت مقاربة إعادة الإنتاج بمختلف تياراتها عمدت إلى دراسة المدرسة باعتبارها علبة سوداء حسب تعبير (Foquin) التي من خلالها تتم إعادة الإنتاج الاجتماعي واستمرارية الثقافة المسيطرة، فإن منظري الحراك الاجتماعي اقتصروا على دراسة المدرسة من الخارج، محاولين الحد من حماس الخطاب الأيديولوجي والسياسي الذي ساد خلال السبعينيات و الثمانينيات. وهكذا يصبح الفشل الدراسي وعدم تكافؤ الفرص الاجتماعية "نتيجة مجموعة معقدة من المحددات التي لا يمكن تصورها منعزلة بعضها عن البعض، وإنما يجب التعامل معها كمجموعة تشكل نسقاً".12
يقدم رايمون بودون نموذجاً لهذه المقاربة، حيث انطلق من معطيات عديدة حصرها في شكل من البناء العلائقي يتمتع بدرجة مقبولة من العمومية ويستجيب لمعايير التكميم والبساطة، وبنى عليها نموذجاً مركباً للعمل على صيغة فرضيات بسيطة على الشكل التالي: المنشأ العائلي, ومستوى الدراسة، والوضع الاجتماعي. وانطلاقاً من علاقة العناصر الثلاثة، قدم نموذجاً لمسارات التمدرس، والتراتبية الاجتماعية، فعدم تكافؤ الفرص، حسب بودون، تنجم بالضرورة عن
التقاءنسقين: نسق المواقع الاجتماعية ونسق المسارات الدراسية، ليخلص إلى أن اللامساواة
إذا كانت ناتجة عن التراتبية الاجتماعية والهرمية المدرسية، فإن تركيبهما يزيد ويضاعف من اللامساواة، كما أن تحقيق تكافؤ الفرص التعليمية لا يقضي على اللامساواة الاجتماعية. ولمعرفة أثر المجتمع التراتبي على تكافؤ الفرص، فإن بودون يقدم نموذج أفراد مختلفين في مواقعهم، حيث يعتبر أن موقعهم يجبرهم على القيام باختبارات وقرارات متباينة في مختلف مراحل التوجيه المدرسي، لنحصل من جهة على إنتاج بصورة مبنية، ومن جهة أخرى على ظاهرة إضافية لا استمرار الأفراد في موقعهم. وتبعاً لنفس النموذج التفسيري النسقي المبني على عدد من الظواهر الإحصائية (منافذ الشغل, الدراسة, والمواقع، والمعطيات السوسيولوجية) المولدة لعدم تكافؤ الفرص، يدرج بودون تلك العلاقة القائمة بين الهيمنة وبنية الجدارة والاستحقاق في الحراك الاجتماعي؛ أي أن كفاءات الأفراد ناتجة عن منشئهم الاجتماعي المرتفع، في حين أن بنية الاستحقاق تعني أن مستوى الدراسة هو الذي يحدد الموقع الاجتماعي للأفراد.
منقول